د. كمال السراج

الفنان الراحل كمال السراج أحد رواد فن الحروفية ومن أهم فنانيه الذين شغفهم حب الحرف العربي وغاصوا بخيالتهم في فضاءاته المشحونة بالأحاسيس الجمالية، فصاغوا من الحروف بنائية جمالية وفنية أثرت المشهد التشكيلي بتصاوير أبرزت جماليات الحرف العربي وما يتميز به من ثراء وقيم تشكيلية ودلالة تعبيرية واجتذبوا لهذا العامل مريدين من جمهور ودارسين وباحثين ونقاد.. وبتمعن أكثر في المشهد التصويري عند الفنان كمال السراج يمكننا تلمس تفرده في هذا المجال الذي صبغه تقريباً بصبغته الفنية وفرض عليه نوعاً ما إحساساً وشكالً بات متأثراً به الكثير من الفنانين، من خلال أسلوبه التصويري المتفرد الذي جعل أعماله وتجربته الإبداعية جديرة بالدراسة، لوحاته البصرية مسطحات تناغم فيها الحرف وتشكيله كجزء من التراث الفني والثقافي الإسلامي، مع باقي مكونات العمل وفلسفته الجمالية والفكرية والمساحات اللونية، محاوراً بصرياً عقل ووجدان المشاهد، الذي أكدت له اعمال « السراج « أنه أمام فنان له شخصيته الفنية الخاصة، يتمتع بقدرات هائلة على تطويع كل حرف والاستفادة من معطياته وإيحاءاته ودلالاته اللغوية والرمزية لتكوين لوحة بصرية إبداعية رفيعة المستوى .. لقد استطاع الفنان الكبير الراحل كمال السراج بولعه المعروف بالتراث الإسلامي، التأكيد على مواكبة الفنون الإسلامية نحو تأكيد التوجه نحو الحداثة في الفن المعاصر، وترسيخ قيمته ومكانته داخل المواطن العربي، باستخدام لغة الفن القادرة على تمكين المبدع من تقديم رسالته في إطار مبتكر و ُمتجدد وعبر أساليب شكلت بانسيابية وسلاسة اعمال خالدة في ميراث هذا الفنان القدير.

لعل ذكر أحرف اللغة العربية بآيات الله في كتابه الكريم، جذبت العديد من الفنانين والشعراء وأوحت إليهم إبداع العديد من اعمالهم الفنية وقد استشعر الفنان/ كمال السراج جماليات حرف السين فجاءت خطوطه تترقرق وتتهادى ليستمر الحوار بين الماضي والحاضر وتفتح آفاقًا جديدة للتواصل بين الأجيال...

اللعب المتجدد بالعلاقات الجمالية في حرف السين يتابع الفنان كمال السراج رحلته مع حرف السين والتي بدأها منذ سنوات فيقدم تنويعات تشكيلية مجردة ذات تأثير حي مباشر تبدأ بإدخال الحرف في علاقات تشكيلية جذابة تخلق نوعا من الحوار بين الأشكال. ففي كل أعمال السراج يبدو أن هناك رغبة لا تنتهي وحافزا متجددا يثريه ويدفعه إلى زيادة وتنوع أشكاله التي يخضعها لمنطق عقلاني منظم، يتخذ طرقًا وأساليب مختلفة من لوحة إلى أخرى من حيث التكوين والمعالجة ومن شأن هذا التنوع مع وجود «وحدة» العمل ككل الذي يمثل إحدى مراحل الفنان أن يحول دون إحساس المتلقي بالرتابة أو التكرار لان كل خطوة في تطور أسلوب الفنان لفكرته الأساسية تفتح مجالا جديدا لإمكانيات تشكيلية تخضع لعمليات الاختيار والحذف والإضافة والهدم والبناء. وهكذا فإن السراج يستقي علاقاته الجمالية، داخل مسطح اللوحة من دافع اللعب المنظم الذي يعتمد عليه علم الجمال المعاصر، فالحرف يتداخل ويتشابك ويصطدم ويتناسل مع أقرانه من الحروف في جمال ظاهر لا إرهاق فيه ولا أمل ولا معاناة.. وتبدو الخبرة الفنية هنا تقدما في مستوى «اللعب..» يقول في ذلك «هربرت سبنسر» حين ينشغل الذهن يتذوق الجمال.. يتحرر الانتباه من الفعل الموجه إلى غايات أبعد، ويطلق العنان لتأمل الصور من أجلها وحدها.

حرف السين هو البطل في معرض السراج لا أدري على وجه التحديد لماذا اختار الفنان حرف »السين» أساسا لكل تشكيلات لوحاته.. على وجه التقريب.. ربما لجمالياته التشكيلية وامكانيات تحويره واستخدامه في تركيبات ال تنتهي.. وربما -هذه فكرة ساذجة خطرت يل وأنا أتأمل معرضه ألن اسمه يبدأ بهذا الحرف.. وربما أيضا لأنه الذي يرمز إلى أي سؤال وإلى كل تساؤل.. لكن استخدام الحروف العربية في اعمال التشكيليين المجددين أصبح ظاهرة في الأعوام الأخيرة.. ومنها خرجت تشكيلات وتكوينات تجريدية ال حرص لها وبأساليب ورؤى ومفاهيم مختلفة.. ومع هذا فإن ما يستوقف في معرض كمال السراج هو اختياره لحرف واحد يستمد منه كل تشكيلاته، يلعب به مع اللون المتعدد ومع التشكيل، يستخدم السراج ألوانًا زاهية متعددة مشرقة توحي بالرؤية الجمالية الزخرفية.. الحرف -س- يتراقص فوق اللوحة ويخرج من لون مرشق ليدخل في لون آخر اكثر زهاء.. كأنما أنابيب الألوان تركت البالته وخرجت إلى اللوحات تجري وتقفز وتتولى في رحلة فانتازية تسرح بالخيال ومع الخيال.. أو كأنها شرائط كرنفال زاهية متألقة أطلقت أو ألقيت بشكل تلقائي لتأخذ حركتها الحرة.. لتنسدل آخر الأمر في اختلاط مريح.. بحث في التشكيل يعكس قدرات عريضة.. ويعكس خيالا جامحا لا يقف عند حدود.. حين وقفت أتأمل تلك الأعمال ارتبطت في مخيلتي بأفلام «الكرتون» وبالذات بأفلام التشكيلي ماك الرن الذي يمسك بالخط الواحد البسيط ويتراقص به ليصنع أشكال وقصة ويسقط من خلاله المطر ويغزو به عامل الفضاء.. في رحلات فانتازية تثير الخيال.. نعود إلى السراج.. فنحس برؤيته ورؤاه الخاصة الذاتية التي تعكس من خلال خرباته التشكيلية ومنطلقه نحو اللون والخط في وحدة منسقة يمكن أن تعطي الكثير.. ولا تنتهي خصوبتها..

لقاء الأساتذة … وبينما يستخدم الفنان طه حسني الأرقام العربية في خلق تكويناته، نرى الفنان كمال السراج يستخدم الحروف الأبجدية منطق آخر يتبع التشكيل الحر القائم على التوازن والتناغم الحركي واللوني وبين الوحدات في تأليف زخرفي منثور غير منظوم. والفنان السراج في معرضه هذا يعمق تجربة العام الماضي التي استخدم فيها حرف ال ـ »س» بنفس المنطق ولكننا هذه المرة نلاحظ كفي اتسعت امكانيات الحرف بين أنامله فأعطى بغزارة وسخاء وتعدد بعيد عن الرتابة.

معرض السراج … هذا المعرض المتطور لاستخدام الخط العربي كلوحة فنية، وفي هذا المعرض انطلق الفنان بتشكيلات هندسية تعطيك إحساسا بزخارف الفن الإسلامي، كما نجح الفنان في استخدام الألوان بتنغيم موسيقى، فنان هادئ رقيق مثل نسيم الصباح، وتارة قوى صارخ ليهز كيانك وإحساسك بلغة الموسيقى، واعماله المعروضة ينطلق عليها رأى الفيلسوف الألماني ارنست ناسيور … بأن مهمة الفن لا تنحصر في تقليد الجمال الطبيعي أو محاكاة أشكال الواقعية، بل هي تتمثل على وجه الخصوص في خلق بعض الأشكال أو إبداع مجموعة من النماذج الأصيلة بحيث يتجلى في العمل الفني طابع شخصي يجيء مميزا له من كل ما عداه.